كتبت : نورا اشرف
الحب فطرة إنسانية والمصريون أهل عشق ووجدان
الحب هو فطرة إلهية مغروسة في أعماق البشر، يدركها البعض بوعي، بينما يغفل عنها آخرون. والمصريون بطبيعتهم شعب يعشق الحياة ويقدّس المشاعر، فالحب ليس مجرد إحساس عابر بالنسبة لهم، بل هو جزء لا يتجزأ من ثقافتهم وسلوكهم اليومي. خلقهم الله منشغلين بالمحبة، يسعون لاكتشافها والتواصل معها، إذ علمتهم الحياة أن يمنحوا قلوبهم حقها من النبض والمشاعر، وأن يجعلوا من الحب وسيلة للارتقاء بأنفسهم وحياتهم.
وكما هو الحال في كل الحضارات العريقة، لم يكن الحب عند المصريين مجرد مشاعر بين رجل وامرأة، بل كان فلسفة عميقة تُشكِّل جوهر التفاعل الإنساني، وتؤثر في كل جوانب حياتهم، فانعكس ذلك في فنونهم وآدابهم، بل وحتى في أساطيرهم التي حملت أعظم قصص العشق. فالمعروف أن الحب يرقق القلب، ويجعل الإنسان أكثر قدرة على الاستمتاع بنعم الحياة، وهذا ما جسّده المصريون في تراثهم ومعتقداتهم.
على مر العصور، ظل المصريون يعبّرون عن حبهم بطرق مختلفة، سواء من خلال الكلمات أو الأفعال أو حتى النقوش التي تركوها على جدران معابدهم ومقابرهم، والتي تعكس تقديسهم لمشاعر الإنسان واهتمامهم بها. وكما كانت هناك قصص فردية عن العشق والهيام، برزت أيضًا تيمات متكررة صاغت مفهوم الحب في الوجدان المصري، وأصبحت مصدر إلهام للأجيال التالية. وهذا ما يستعرضه في هذا الملف، حيث نسلط الضوء على بعض من أعظم قصص الحب التي خلدها التاريخ المصري.
إيزادورا.. الاستشهاد في سبيل الحب
في كتابها “معك”، تحدثت السيدة سوزان طه حسين عن زيارتها مع زوجها الدكتور طه حسين إلى مقابر منطقة تونا الجبل بمحافظة المنيا، حيث دخلوا إحدى المقابر القديمة التي تضم جسد فتاة نحيلة تُدعى إيزادورا، ألقت بنفسها في نهر النيل حبًا وعشقًا. وعلى شاهد قبرها، نقش والدها كلمات تخلّد ذكراها، إذ ندم بشدة على محاولته منع حبها، وطلب من أجلها القرابين والصلوات.
إيزادورا، الفتاة الجميلة التي كانت تبلغ من العمر 18 عامًا عند وفاتها، عاشت في القرن الثاني قبل الميلاد، في عهد الإمبراطور هادريان. كانت تنتمي إلى أسرة إغريقية تعيش في مدينة أنتوني وبولس (الشيخ عبادة حاليًا)، وكان والدها حاكمًا للإقليم الذي يقع في محافظة المنيا حاليًا، ويمتلك قصرًا ضخمًا يطل على النيل.
شاء القدر أن تلتقي إيزادورا بالشاب المصري حابى، الضابط الذي كان يعمل في قوات الحراسة بمدينة خمنو (الأشمونين حاليًا). وقع الاثنان في حب عميق، غير أن الفارق الطبقي والاجتماعي بينهما جعل هذا الحب مستحيلًا في نظر والدها، الذي رأى أن ابنته ذات الأصول الإغريقية لا يجب أن ترتبط بشاب مصري من عامة الشعب.
بعد ثلاث سنوات من الحب الصادق، اكتشف والدها أمر علاقتهما، فقرر أن يضع حدًا لهذا الارتباط. حاصرها ومنعها من لقاء حبيبها، لكنها لم تستطع العيش بدونه، فقررت إنهاء حياتها بنفسها.
في ليلة حزينة، بعد لقاء أخير مع حابى، ألقت إيزادورا بنفسها في نهر النيل، لتصبح رمزًا للحب الذي لم تهزمه القيود الاجتماعية. بعد وفاتها، ندم والدها أشد الندم، وبنى لها مقبرة فاخرة نقش عليها مرثيتين. أما حبيبها حابى، فظل وفيًا لها حتى النهاية، حيث كان يذهب إلى مقبرتها كل ليلة لإشعال شمعة، حتى لا تبقى روحها وحيدة في ظلام الموت.
رفاعة الطهطاوي.. حب وزواج قائم على العدل والمساواة
من صفحات التاريخ، نجد قصة مختلفة للحب، بطلها المفكر الكبير رفاعة رافع الطهطاوي، الذي لم يكتفِ فقط بكونه رائد النهضة الفكرية في مصر، بل كان أيضًا نموذجًا لرجل محب وزوج وفيّ، يدرك معنى الاحترام والعدل في العلاقة الزوجية.
في عام 1838، تزوج الطهطاوي من ابنة خاله كريمة محمد الفرغلي الأنصاري، ولم يكن زواجه مجرد عقد تقليدي، بل وثّقه بوثيقة غير عادية، تعهد فيها بالحفاظ على حقوق زوجته، وعدم الزواج عليها طالما هي على ذمته، حتى لو كان ذلك بجارية.
وجاء في نص الوثيقة التي تعود لعام 1840:
“التزم كاتب الأحرف رفاعة بدوي رافع لابنة خاله المصونة الحاجة كريمة أن يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها، وألا يتزوج بزوجة أخرى أو يتمتع بجارية، فإذا فعل ذلك تكون مطلقة منه بالثلاثة. وتعهد أمام الله أن يحفظ عهدها ما دامت معه على المحبة والأمانة والحفاظ على بيتها وأولادها.”
بهذا التعهد، يكون الطهطاوي قد سبق عصره في الدفاع عن حقوق المرأة، مُقدّمًا نموذجًا لحب يقوم على المساواة والوفاء والاحترام المتبادل.
إيزيس وأوزوريس.. أسطورة الحب الأبدي
إذا أردنا الحديث عن الحب في مصر القديمة، فلن نجد قصة أكثر خلودًا من إيزيس وأوزوريس، تلك الأسطورة التي شكّلت وجدان المصريين، وعلمتهم كيف يكون العشق الصادق والوفاء الأبدي.
تبدأ القصة بمأساة، حيث قام ست، شقيق الملك أوزوريس، بقتله غدرًا، ليغتصب عرشه. لكن زوجته إيزيس لم تستسلم، فبحثت عن جثته، حتى عثرت عليها، لكن ست أعاد الاستيلاء عليها ومزقها إلى 42 قطعة، ووزعها في أقاليم مصر المختلفة.
ورغم هذا، لم تيأس إيزيس، بل واصلت البحث حتى جمعت أجزاء زوجها، وأنجبت منه حورس، الذي انتقم لأبيه واستعاد العرش.
عاشت هذه القصة آلاف السنين، وأصبحت رمزًا للحب والوفاء الذي لا ينتهي بالموت، بل يستمر حتى بعد الفناء.
حب في قصر المماليك.. السلطان العاشق
لم يكن السلطان الناصر محمد بن قلاوون من الشعراء، ولم يُعرف عنه التغزل في محبوباته، لكنه كان عاشقًا وفيًا لزوجته خوند طغاي، التي كانت الأقرب إلى قلبه رغم امتلاكه العديد من الجاريات والزوجات.
وصفها المقريزي بأنها كانت من أجمل وأذكى النساء، وكان السلطان يستشيرها في أمور الحكم، وهو أمر نادر بين سلاطين المماليك. لم يكن زواجهما مجرد تحالف سياسي، بل كان علاقة قائمة على الحب والاحترام، حتى إنه كان يرسل لها الهدايا والرسائل العاطفية أثناء غيابه في الفتوحات.
ختامًا
الحب في مصر لم يكن مجرد مشاعر عابرة، بل كان قوة دافعة للحضارة، تتجلى في الأساطير والقصص الحقيقية التي لا تزال تُلهم الأجيال. سواء كانت إيزيس وأوزوريس، أو عشقًا مقاومًا كإيزيدورا، أو علاقة قائمة على الاحترام رفاعة الطهطاوي، يبقى الحب دائمًا أحد أعمدة الروح المصرية.