كتبت : فاطمه القاضي
يُطِل الزَعم القائل بأنَّ حركة المقاومة الإسلامية "كانت في بداياتها مشروعا إسرائيلياً" برأسه للعلن بين حين وآخر، فيما أثاره مجدداً هجوم 7 أكتوبر.
وقد يبدو التساؤل -عن جذور حماس وحقيقة ارتباطها بالاحتلال- صادما للبعض، لكنه وللمفارقة اتهام قديم جدا، يُوجّه للطرفين -على حد سواء-، وحتى قبل هجوم حماس على الاحتلال، ردده وزير فلسطيني سابق على، وكررته صحف أجنبية عديدة، وذكره نشطاء بارزون على مواقع التواصل الاجتماعي.
وبينما صرّح به علناً -قبل عقود- الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وذكره سيناتور جمهوري داخل الكونغرس الأمريكي، وورد على لسان مسؤولين في الشاباك الإسرائيلي.. فإن أبناء الحركة الإسلامية يرفضونه بشكل قاطع، كما يعترض عليه مسؤولون الاحتلال رفيعو المستوى، ويصفونه بغير السليم.
إذاً، ما حقيقة هذا الاتهام؟ وعلى أي أسس قام؟ وفي أي محطات من تاريخ تكوّن الحركة الإسلامية ظهر هذا الارتياب؟
مخاض حماس الطويل
من الجدير ذكره أن حركة المقاومة الإسلامية حماس لم تظهر -عام 1987- من العدم، فقد خاضت الحركة رحلة طويلة قبل ذلك. ومرّت بما يمكن تقسيمه -تبسيطا- إلى مستويين:
الأول: جذور الحركة في الأراضي الفلسطينية، التي بدأت بوادرها منذ منتصف الأربعينيات، وذلك مع تأسيس أولى شعب الإخوان الفلسطينيين في غزة، وحي الشيخ جراح في القدس، وغيرها من المدن.
الثاني: خلاف شباب الإخوان المسلمين مع شيوخهم وقادتهم، على إثر "نكسة" 1967، وبدء إرهاصات التفكير الإخواني الشاب بالعمل العسكري المُنظّم.
ووفقا للتقييمات، فإن جزءا كبيرا من تاريخ الإخوان المسلمين في الأراضي الفلسطينية اتسم بالطابع الديني الدعوي والتوعوي، وبناء المؤسسات الدينية والاجتماعية والمساجد، إذ تشير أدبيات الإخوان إلى أنهم كانوا يسعون -خلال نشأتهم في فلسطين- للتركيز على الإعداد الفكري والثقافي والنفسي والروحي، وليس العسكري.
وفي هذا السياق، يذكر زعيم حماس السابق ورئيسها -الآن- في الخارج خالد مشعل، أن الإسلاميين غابوا اضطرارا في فترات عن الساحة الفلسطينية، بسبب نشوء ظروف ضاغطة على الإسلاميين في المنطقة أواخر الخمسينيات والستينيات -مع هيمنة المد القومي والناصري والبعثي والشيوعي-، إذ لم يكن مرحبا بهم، ولم يعطوا فرصة العمل، وفق تصريحات صحافية لمشعل.
المئذنة الحمراء : إرهاصات "الكفاح المسلح"
يبدو أن واحداً من عوامل التحوّل في منهجية "الصراع مع الاحتلال " بدأ بالتشكل بعد هزيمة العرب في حرب 1967، فقد تحدّث أول ناطق باسم حركة حماس إبراهيم غوشة، في مذكراته التي عنونها بـ "المئذنة الحمراء"، عن تداعيات تلك الهزيمة وارتداداتها على شباب حركة الإخوان المسلمين.
وقال غوشة في مذكراته إن المراقب العام للاخوان في الأردن محمد عبد الرحمن خليفة، عقد حينها مؤتمرا إسلاميا جاء بمخرجات لم تُرضِ غوشة وجيله من الشباب، "لأنه لم يقدم حلولا واضحة لمستقبل فلسطين، ولم يدعُ إلى البدء بالبناء الإسلامي الجهادي".
وتضيف مذكرات "المئذنة الحمراء" أن هذا الأمر دفع شباب الإخوان -المتحمسين للقتال ضد الاحتلال -، إلى العمل بما سمّوه "الحركة التصحيحية" داخل الجماعة، وذلك للبدء بالتسلّح -دون علم قيادات الإخوان-.
وعلى إثر ذلك، تم الاتفاق -سراً- مع حركة فتح على إعداد أولئك الشباب من الإخوان، وتزويدهم بالمهارات القتالية، ضمن ما عُرف حينها بـ "قواعد الشيوخ"، في الأردن.
بدأت التدريبات داخل تلك القواعد في عام 1968، لكنها انتهت عام 1970؛ بسبب ما عُرف بأحداث "أيلول الأسود"، واكتشاف قيادة الإخوان للحركة التصحيحية، بحسب المذكرات.
ومن اللافت ذكره، أن حركة الإخوان المسلمين شهدت صراعات داخلية في تلك الفترات، بين "القيادات الكلاسيكية" و"جيل الشباب"؛ فبينما كان الشباب يضغطون لتبني نهج القتال ضد الاحتلال، كانت القيادات تتمسك بتقديم أولوية "بناء الدولة" على قتال الاحتلال، وهو ما دفع عددا من أبناء الحركة للانشقاق عنها، وتشكيل حركات "وطنية ونضالية تتبنى الكفاح المسلح"، مما أدى إلى زيادة الضغوط على الجماعة التي كانت تعاني من الضعف، وسط تعدد خصومها، وسيادة تيارات فلسطينية فكرية ووطنية أخرى.
"صنعوا حماس لمواجهة ياسر عرفات
تُثار "شبهة العلاقة" بين الاحتلال والجماعة الإسلامية التي انبثقت عنها حماس، في آخر عقدين من مخاض الجماعة -أي في السبعينيات والثمانينيات-.
الرئيس المصري السابق حسني مبارك، كان من بين مثيري تلك الشبهة، حين اتهم حركة حماس بأنها صنيعة إسرائيلية، فقد ظهر مبارك في مقطع مصور قديم، مجتمعا بعدد من العسكريين المصريين، ويقول فيه: "إسرائيل أنشأت حماس حتى تعمل ضد المنظمة (منظمة التحرير الفلسطينية)".
ولم يكن مبارك وحيدا في توجيه هذا الاتهام، فهناك رون بول -وهو عضو سابق في مجلس النواب الأمريكي، وخاض سباق الرئاسة الأميركية عام 1988-، قال بول عام 2009 من داخل الكونغرس: "إذا عدت بالتاريخ، ستجد أن إسرائيل شجعت وساعدت في صناعة حماس، بهدف مواجهة ياسر عرفات".
كما أنَّ الوزير السابق وعضو الوفد الفلسطيني إلى مفاوضات أوسلو السرية عام 1993، حسن عصفور، قال في أيلول/سبتمبر عام 2023 ، إن "حماس انطلقت بالاتفاق بين بعض الدول العربية والاحتلال في إطار مشروع أمريكي، لتكون بديلا موازيا لمنظمة التحرير الفلسطينية".
في هذا الجانب، قال الباحث الفلسطيني أستاذ العلاقات الدولية في جامعة قطر د.أحمد جميل عزم الذي قال إن الاتهامات ليست حكرا على أحد، معتبراً أن تلك التي تطال السلطة الفلسطينية ليست أقل سوءا، وقال عزم إن "الإسرائيليين أنفسهم جزء من هذه الادعاءات.. كما أن الانقسام الداخلي الفلسطيني – الفلسطيني لعب دورا في هذه المزاعم".
وبشأن تصريحات مبارك قبل عقود، يقول عزم إن "خطاب النظام المصري كان يتغير بحسب المصالح.. وربما جاءت تلك الاتهامات في سياق العداء مع الإخوان المسلمين أو في لحظة توتر مع حماس.. وفي المقابل، فقد كان حسني مبارك ومدير مخابراته عمر سليمان، في بعض الفترات، على علاقة إيجابية جدا مع حماس.. وصلت إلى حد تسهيل دخول الأسلحة لقطاع غزة".
يمكن القول إن اتهامات "العلاقة المحرمة" بين حماس والاحتلال، تأتي في سياق المحطات اللاحقة لحرب 1967، حين بدأ الإخوان ما يُسمى بـ "مرحلة المساجد" في الأراضي الفلسطينية، والتي استمرت بحسب التقديرات حتى عام 1975، وهي مرحلة اتسمت بالعمل على "بناء المساجد واستيعاب الجيل وتعبئته.. وتركيز عقيدته وتعميقها لمواجهة التيار الصهيوني"، حسبما ينقل الكاتب خالد الحروب في كتابه "حماس: الفكر والممارسة السياسية".
ويُقدّر الحروب أن الإسلاميين استثمروا نتيجة حرب 67 استثمارا كبيرا، وذلك بظهور صلاحية الشعار الإسلامي البديل في مواجهة الشعار الناصري القومي الذي خاص الحرب وخسرها.
ويذكر الكاتب أن "مرحلة المؤسسات التالية، امتدت منذ منتصف السبعينيات وصولا إلى أواخر الثمانينات، وهي التي تأسست فيها الكتل الطلابية الإسلامية والأندية والجمعيات الخيرية، وغيرها مما أصبحت مراكز لالتقاء مجموعات الشباب الإسلامي الجديد".
كنت رئيسا للشاباك وشاهدا على نشوء حماس
نشرت نيويورك تايمز مقالة عام 1981، تحدّثتْ فيها مع الحاكم العسكري للاحتلال في غزة -حينها- إسحق سيجيف، الذي قال للصحيفة: "الأصوليون الإسلاميون يتلقون بعض المساعدات الإسرائيلية.. أعطتني الحكومة الإسرائيلية ميزانية، وتقوم الحكومة العسكرية بتقديم دعم للمساجد"، وعللت المقالة تقديم تلك الأموال بهدف تعزيز القوة التي تنافس منظمة التحرير الفلسطينية.
ولكن، في مقابلة نشرتها مؤخرا هيئة بث الاحتلال، يقول يعقوب بيري الذي عمل رئيسا لجهاز الشاباك الإسرائيلي: "لقد كنت رئيسا للجهاز منذ عام 1988 وحتى 1995، لقد كنت شاهدا على نشوء حركة حماس، وأذكر أن تقييمنا كان أنها أشبه بحركة اجتماعية، وأنها كانت تعمل لتوفير احتياجات الناس.. الكثير من الناس في إسرائيل اتهموا الشاباك بأنه ساعد الجهاز السياسي لحماس باعتباره بديلا لمنظمة التحرير.. لكن هذا ليس صحيحا".
وعند العودة لمؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين في برنامج "شاهد على العصر"، فلا يبدو أن مسألة الأموال الإسرائيلية شكّلت "مأزقا" له، فقد أكد أن الاحتلال كان يدفع الرواتب باعتباره القوة القائمة بالاحتلال، مضيفا: "لقد بدأوا بعرض دفع المعاشات والرواتب للموظفين الذين يقبلون العودة إلى العمل.. ابتداءً دون مقابل، ولاحقا بمقابل".
أضاف ياسين أن الاحتلال كان يدفع الرواتب بهدف التأكيد على أنها تعيد الحياة لطبيعتها بعد احتلال غزة، مضيفا: "أنا كنت آخذ 240 ليرة إسرائيلية في الشهر مقابل عملي مدرّساً.. و40 ليرة مقابل عملي خطيبا في المسجد.. هذا المبلغ لو أردت استخدامه لاستئجار سيارة -لأي مكان- ذهابا وإيابا، فلن يكفي".
تقاطع مصالح غير مقصود
اعتبر الباحث في معهد ترومان في الجامعة العبرية د.روني شاكيد، خلال حديث، أن الاحتلال لم يكن لديه مشكلة مع التيارات الاجتماعية الدعوية، مضيفاً أن الإخوان لم يشكلوا حينها خطرا على الاحتلال.
ويؤكد شاكيد -وهو ضابط سابق في الشاباك خلال سبعينيات القرن الماضي-، أن الاحتلال لم تموّل الإسلاميين قط، وأن إسهاماتها كانت تقتصر على منح الرخص، وليس منح الأموال للإسلاميين.
ويتفق حديث روني شاكيد مع حديث أحمد عزم، بالتمييز بين "الدعم" و"صرف النظر"، فيرى كلا الباحثين أن تجنّب التيار الإسلامي مواجهة الاحتلال، التي كانت ترغب بوجود حركات لا تتبنى نهج "الكفاح المسلح"، دفع نحو تقاطع "غير مقصود" في المصالح، فصرف الاحتلال النظر عن الإسلاميين.. وبالتالي يعترض الباحثان على اعتبار ذلك "دعما" إسرائيلياً لجماعة الإخوان.
وفي سياق التساؤل عن طبيعة تواصل الاحتلال مع المجتمع الديني، وقضية "تمويل الاحتلال أو سماحه ببناء مساجد الإسلاميين"، نجد كتابا بعنوان "سياسة إسرائيل تجاه الأوقاف الإسلامية في فلسطين" صدر عام 1992 للكتاب البريطاني مايكل دمبر، يقول فيه إن من أولى الإجراءات التي اتخذها الحاكم العسكري عام 1967، كانت تعيين ضابط للاحتلال مسؤول عن الشؤون الدينية في قطاع غزة، ووظيفته الربط بين الحكم العسكري والطوائف الإسلامية والمسيحية.
وبينما ينقل الكاتب البريطاني أن الاحتلال سمح أواخر السبعينيات وأواسط الثمانينيات ببناء تلك المساجد في وسيلة لإيجاد توازن أمام منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أنه لم يُشر إلى وجود خطوط تمويلية بين القائمين على تلك المساجد والاحتلال.
كان إهمالاً.. ولم نموّل حماس قط
لا يتفق مسؤولون الاحتلال على رواية واحدة فيما يتعلق بمنهجيتهم في التعامل مع الحركة الإسلامية أثناء نموها داخل قطاع غزة، فبينما يُعرب مسؤولون سابقون للاحتلال عن "الأسف لدعم حماس وصنعها"، نجد في المقابل أنَّ شالوم هراراي، أحد ضابط المخابرات العسكرية -حينها- في غزة، يقول في تصريح نشرته نيويورك تايمز عام 2009: "إسرائيل لم تمول حماس قط، وإسرائيل لم تسلح حماس قط.. كانت هناك تحذيرات بشأن الإسلاميين تم تجاهلها، لكن الإهمال كان السبب وراء ذلك، وليس الرغبة في تحصين الإسلاميين".
وفي هذا الإطار، ذكر الشيخ أحمد ياسين أنَّ "الاحتلال كان يراقب مؤسسات الإسلاميين كحال جميع المؤسسات.. وكانت تحاول إيجاد توازنات داخل القطاع.. تترك الكل ينمو بطريقته الخاصة حتى يأتي الوقت وتضربهم ببعضهم بعضا".
على رؤوسهم جاءت النتائج
تُعد مسألة إنشاء الجمعية الإسلامية والمجمع الإسلامي، من أهم المسائل التي يستند إليها متهمو الاحتلال بالمساهمة في نشوء حركة حماس، أمّا أدبيات الإخوان فتصف تلك المرحلة من القرن الماضي بأنها كانت تجري تحت "مظلة قانون الاحتلال.. وأن نشاطاتهم كانت تقتصر على مجرد النواحي الدينية، فلم يخرقوا القانون ولم يدخلوا في مواجهة مع سلطات الاحتلال ".
وعلّق الزعيم الروحي لحركة حماس أحمد ياسين في "شاهد على العصر" على تلك الحقبة بالقول: "لم يكن بإمكاننا الدخول في صراع مع الاحتلال.. ومن هنا جاءت فكرة المؤسسات الإسلامية.. كانت الجمعية الإسلامية عام 1976 غرفةً في مسجد.. وكانت تركز بالغالب على الأنشطة الرياضة".
أمّا الكاتبان الإسرائيليان إيهود يعاري وزئيف شيف، فيقولان في كتابهما "انتفاضة" الصادر عام 1990، إن "الإدارة المدنية الإسرائيلية أسهمت بشكل ملموس في تطور الحركة الإسلامية التي بزغ نجمها مع بدء الانتفاضة الأولى.. لقد سمح الاحتلال لهم باستلام مناصب القوة والنفوذ في المجتمعات المحلية، وإقامة المؤسسات..".
ويضيف الكاتبان الإسرائيليان: "لقد خدعت إسرائيل نفسها في إمكانية السيطرة على الإسلاميين وتوظيف صعودهم على حساب نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية.. لقد تعلّمت إسرائيل الدرس، لكن بعد فوات الأوان".
وفي هذا الصدد يقول القيادي الحمساوي إبراهيم غوشة إنه "لا ذنب للإخوان أو الشيخ ياسين إذا اعتقد الاحتلال أن منح رخصة للمجمع الإسلامي سيساهم في الموازنة بين التيار العلماني في منظمة التحرير، والتيار الديني للإخوان.. فإذا كان الصهاينة أخطأوا التقديرات، فعلى رؤوسهم جاءت النتائج.."
وتعليقا على تلك الفترة، يذكر الكاتب خالد أبو العمرين في كتاب "حماس: جذورها ونشأتها وفكرها السياسي"، أنَّ السلطات الإسرائيلية لم تسمح للحركة الإسلامية وحدها بإقامة المؤسسات، بل سمحت للفصائل الوطنية بإقامة النوادي والجمعيات والنقابات والمكاتب الصحافية في كل مكان، ويدلل الكاتب على ذلك بأن "إسرائيل سمحت عام 1980 لحركة فتح بإنشاء حركة الشبيبة، التي كانت تقوم بعمل سياسي واجتماعي علني".
وبالعودة إلى كتاب "الجمعيات الخيرية في الضفة الغربية وقطاع غزة" الصادر عام 1988، يقول مؤلفه عبدالله الحوراني إن عدد الجمعيات في غزة قبل "الانتفاضة الأولى" عام 1987، وصل إلى 62 جمعية، كان نصيب الإخوان منها 4 جمعيات فقط، أبرزها: المجمع الإسلامي، والجمعية الإسلامية.
الخطأ الاستراتيجي
يقول الباحث الفلسطيني أستاذ العلاقات الدولية في جامعة قطر د.أحمد جميل عزم إن إسرائيل أخطأت استراتيجياً وتكتيكياً، "فهي لم تمتلك قط استراتيجية واضحة.. فإسرائيل تعتمد دائما على تفوق القوة الهائلة.. فمثلاً بعد احتلالها غزة عام 1967 حاولت التواصل مع المجتمع عبر إيجاد الفرص الاقتصادية والقيادات المحلية المتمثلة بوجهاء العائلات، وإجراء الانتخابات البلدية.. كما كان اتخاذ القرارت مبنيا على أسس أمنية، وليس على فهم واقعي لأبعاد الاحتلال وتبعاته.. وهذه الوسائل لا يمكن أن يرتضي بها المجتمع بديلا عن مقاومة الاحتلال".
أمّا الباحث في معهد ترومان في الجامعة العبرية د.روني شاكيد، فيقول إنه رغم تخوفات الحاكم العسكري في غزة -حينها- إسحاق سيجيف، والذي أعرب له عن خشيته من الأوضاع في غزة "بسبب تشابهها مع حالة طهران قبل الثورة"، ورغم تلقي ادارة الاحتلال تحذيرات من خطورة التيار الإسلامي مستقبلا، إلا أن إسرائيل لم تفهم الحركة الإسلامية، وكانت محتارة ومرتبكة في التعامل معها.
ويضيف شاكيد أن "الشيخ أحمد ياسين خدع إسرائيل وأوهمها بأنه يكرس نفسه ضد الشيوعيين.. فيما كان يعمل على بناء رياض الأطفال وتنشئة الأجيال وتحضيرهم لمقاومة الاحتلال ".
ويرى الباحث الإسرائيلي أن الاحتلال لا يزال يعتقد أن القضاء على حماس ومنح الفلسطينين فرص عمل ومزايا اقتصادية، سيؤدي للاستقرار، "لكن ذلك ليس صحيحا.. فلو قُضي على حماس، ستخرج بعدها حركات مقاومة وطنية جديدة".
لحظة الصفر: قتال الاحتلال
كان التحوّل الجذري في منهجية صراع الإخوان المسلمين ضد الاحتلال، في عام 1983، عندما عقدت الجماعة مؤتمرا في الأردن، قررت فيه "السماح لكوادرها في الضفة وغزة بتنظيم العمل العسكري، والبدء به حال توفرت الظروف المناسبة"، وفقًا لمذكرات أول ناطق باسم حماس.
بعد هذا المؤتمر بسنة واحدة، وجّه الاحتلال ضربة قاضية لأول خلية عسكرية في قطاع غزة، إذ اعتقلت جميع أفرادها وعلى رأسهم أحمد ياسين الذي حكمته بـ 13 سنة، بعد أن وجدت في بيته نحو 80 قطعة سلاح، كان قد اشتراها وخزنها استعداداً لتنظيم العمل العسكري ضد الاحتلال.
لكنَّ ياسين لم يُمضِ في الاعتقال سوى عدة أشهر، إذ أفرج عنه عام 1985 ضمن صفقة تبادل كبيرة، قادتها الجبهة الشعبية -القيادة العامة، بعد أسرها ثلاثة جنود للاحتلال.
في تلك الفترة، وعلى الرغم من أن الإسلاميين تلقوا ضربة موجعة من الاحتلال، خاصة أن الحركة بتوجهها "العسكري" كانت ناشئة وتعاني من ضعف الخبرة وتواضع القدرات، إلا أن ذلك لم يهدم الحركة، فقد كان امتدادها "العقائدي" صلبا، فاستطاعت الحركة إعادة التموضع عسكريا مرة أخرى، والعمل على مراكمة الخبرات عبر التجربة والخطأ، فصار لديها أخيرا جهاز "المجاهدون الفلسطينيون" العسكري، وجهاز "مجد -منظمة الجهاد والدعوة" الأمني.
ولكن يبدو أن الاحتلال لم يكن بعدُ قد قدّر أهمية التحوّل في منهجية الحركة وامتداداتها داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، ولذا استطاع الإسلاميون تطوير أدواتهم، بما أوصلهم في النهاية إلى تلك اللحظة التي كُشف فيها علناً عن النهج "الكفاحي المسلح"، وإشهار ميلاد (حركة المقاومة الإسلامية -حماس) في 14 من ديسمير/كانون الأول عام 1987، بعد أيام من انطلاق الانتفاضة الأولى.
نهايةً، ومما لا شك فيه، فإن تاريخ حركة حماس يتصف بالغموض ونقص التوثيق في العديد من محطاته، وهو ما يُرجعه عديدون من أبناء الحركة، للظروف الأمنية والسياقات السياسية والاجتماعية التي أحاطت بجماعة الإخوان المسلمين مع بداية تشكّلها في الأراضي الفلسطينية.
ورغم ذلك، فإنه من الممكن الإجابة على سؤال "صناعة" الاحتلال لحماس، بالتوقف عند مغالطة السؤال نفسه، فإسرائيل لم "تصنع" حماس، بل إن تعقيدات المخاض الطويل داخل حركة الإخوان المسلمين، الذي أنتجه وجود الاحتلال وصراع الفلسطينيين معه، كانت الظروف الرئيسية التي أدت إلى "صناعة" حماس، كما يؤكد ضيفانا شاكيد وعزم.
إذًا، قد يكون هناك حيز للجدل بشأن الادعاءات القائلة بغض إسرائيل الطرف عن الحركة إبان نشأتها، أو ربما محاولة توظيف وجودها حينما كانت أمرا واقعا وقوة صاعدة في المشهدية الكفاحية الفلسطينية.. لكنَّ السياقات التاريخية للحركة الإسلامية والظروف التي نشأت فيها، لا تحتمل تهمة "اختراع" حماس داخل غرف الاحتلال المغلقة، ولا تتسع حتى لنظرية تمويلها باعتبارها "مشروعا" إسرائيليا.